- إنضم
- 15 سبتمبر 2010
- المشاركات
- 45,376
- العمر
- 40
- الإقامة
- تلمسان
- هواياتك
-
كرة القدم، الشطرنج، كتابة الخواطر، المطالعة
- وظيفتك
-
موظف بقطاع التجارة
- شعارك
-
كن جميلا ترى الوجود جميلا
أسطورة العجوزين
كان – يا ما كان – في ماضي الزمان ، أو في زمان لا تعيه الذاكرة ،عجوزان يعيشان في هذه القرية . الأول يدعى صفر باسم الشهر الذي يلي محرمويسبق الربيع ، والثاني يدعى مدحت . الأول يعرف باسمه ولقبه : صفر السفرجلي، والثاني باسمه وكنيته مدحت أبو مديح . وكان الأول هو الذي يقوم بالعملكله ، فيزرع الفول والقرع والباذنجان والبصل والطماطم في القيراط الذييملكانه. وصفر هو الذي يجمع الحطب ليشع الدفء في أرجاء المنزل ، عندما تقسو علىالمسنين ليالي الشتاء . وهو الذي يذهب إلى السوق ليبيع هذا الحطب أو يبيعأحسنه ، ويحمله – عندئذ – على ظهر حماريهما العجوز نعل الريش ، ويصطحبكلبهما الوفي المدعوّ خمس خمسات ، لأنه يلبس في عنقه عقداً يضم خمس خرزاتزرق . أما العجوز الآخر مدحت مديح، فكانت طباعه وأخلاقه عجبا من العجب . كثيرالغمغمة والتأوه والشكوى من الزمن ، يستلقي على الفراش تارة وعلى الحصيرتارات أخرى . ويجلس على المصطبة ، ويتركها إلى الأريكة ، يتربع فوق هذهوتلك . لا يبرح البيت طوال النهار ، وكأنه هو الفصيح الذي صاغ للناس فيقديم الزمان مثلهم العجيب القائل بهزء وبتبجح وسخرية: الكسل عسل.
كان يحلو للناس أن يتهكموا على العجوز مدحت من وراء ظهره، ليأمنوا شر غضبهوتهوره ، فقد كان لا يطيق سماع كلمة لا توافق هواه . وعلى العكس تماما ،كان الناس يثنون على صفر وعلى خصاله الكريمة وشمائله الحلوة ، ويشيدونبطيبة قلبه ومثابرته على العمل .
كان السفرجلي يحب مدحت ويوليه الرعاية، ويهتم بشؤونه، فيطبخ له الطعام،ويوقد له الفرن لينعم بالدفء ويأتيه بأحسن الفاكهة وبواكير المواسم منالقثاء أو البلح أو قطوف العنب والتين، كلما أمكن .
وكبر الكل : صفر ومدحت، ونعل الريش وخمس خمسات . وأعوزهم الكفاف من الطعاموالدفء في بعض الأيام . ونظر صفر إلى أخيه مدحت فوجده يرتعش من البرد وتصطكأسنانه . قال : " سأخرج وأجمع له الحطب من الغابة القريبة".سار في غبش السحر قبل الفجر ، وقد أخذ معه نعل الريش وخمس خمسات ، وأنهكهمالسير جميعا. ودمعت عينا العجوز، وهو يتأمل السماء ذات النجوم ، وكأنهاتتساقط أنداء فوق الزرع والشجر. وفجأة، لمح على مسافة منه – لا يدري هل هيقريبة أم بعيدة – صفحة ماء رقراق ، وحملق فيها وهو مشدود إليها . قال : " هذه لا يمكن أن تكون سرابا، ولكنها لم تكن بالأمس موجودة ، ولم أرها فيحياتي من قبل ، على كثرة ما جئت هذه الغابة ودخلتها وخرجت منها في كل اتجاه،وذرعتها محتطباً وقناصاً، وقد جمعت بعض فراشاتها وأزهارها" .
فيما هو يحدث نفسه، كانت قدماه أوصلتاه إلى الماء يتبعه صديقاه الوفيان. فإذا بالعين – حقيقة – خيط من الماء ، بالقرب من بعض عيدان الزهور المتفتحةالزاهية كالجدول أو الغدير السلسال. ومال الثلاثة يشربون، والفجر يطلعهادئا ، يشدو بأصوات العصافير .رفع صفر السفرجلي قامته ووجهه من صفحة الماء فرأى عجباً، رأى نعل الريشبضرب الأرض بحافره الناعم فينطلق منها مثل الشرار ، وهو ينهق نهيقا لا نشازفيه ولا تنافر. ثم يدور حول نفسه وكأنه يعلو ويطير ، وحوله – أيضا- يدورعاليا وطائرا ، بخطى أوقع من النغم الشجي ، كلب كأنه في عمر الجراء الصغيرة،كان يعرفه منذ هنيهة باسم خمس خمسات. ولا بد أن يكون بالفعل هو خمس خمساتولكن شدّ ما تغير نعل الريش كذلك ، هما الآن شابان أو طفلان . بل أنا أيضاصفر السفرجلي العجوز الهرم شاب ، فهذه يدي لم تعد عروقها خضراء بارزة ،وهذا شعري أتحسسه فوق رأسي، فأجده كثيفاً غزيراً ملبّدا مثل صوف الغنم ،وهاتان عيناي تريان الأشياء رؤية صحيحة ثابتة، وها هما قدماي تطيرانوتعلوان مثل أقدام هذا الحمار الذي أصبح جحشاً، وهذا الكلب الذي عاد جرواًغريراً .
ركب صفر السفرجلي ظهر نعل الريش، فهو أسرع منه قطعاً ليصل إلى المنزلمبكراً ، ويخبر مدحت بالخبر .قال مدحت: "لا أريد أن يأتي أحد منكم معي، لشرب نصيبي من العين، فيزداد هوشباباً، ويحرمني العودة إلى الشباب، أتركوني أذهب وحيدا".
وتركوه ..... مرت ساعة ومرت ساعتان ، ومدحت مديح لم يعد . وساور القلق أصحابنا،فنهضوا جميعا إلى الغابة، ونظروا يمينا وشمالا، فلم يجدوا عين الماء فيمكانها، ولم يجدوا ماء بتاتا. ولكن ها هي زهور الأقاحي والسوسن والياسمينوالنرجس الغض البهي، وها هو أمام أعينهم طفل ، ولا كل الأطفال، متوردالخدود، ممتلئ الوجه مثل القمر. أيجوز أن يكون هذا مدحت أبو المديح العجوزالساخط المكتئب. أجل أجل، إنه هو! لقد شرب مدفوعا بنهمه ولهفته كل ماءالعين، ولم يترك منه قطرة واحدة !" .
قال سعد الغريب: "ولهذا السبب ، فإن أهل العجوزين ما زالوا حتى اليوميقولون كلما رأوا شابا يتدفق بالنشاط والفتوة: صفر السفرجلي الشاب المنجلي.ويقولون كلما رأوا طفلا في المهد حلواً وسيماً! مدحت مديح – طفل مليح".
قلت : " يا دليلنا في هذه الرحلة العجيبة ، هل تسمح لي أن أضيف إلى هذينالمثلين على الوزن والقافية:
سعد الغريب– طفل أريب".
قال: "يا عمي، تسمح لي إذن أن أقول لك إن فؤاد الحداد طفل الفؤاد، شابالفؤاد، إلى الأبد!".